ثورات مصر تبدأ من نفس النقطة وتنتهي إليها دائماً، فمن يقرأ عن أي ثورة في القرنين الماضيين يرى أنها جميعاً تتركز حول الاستقلال (في 25 يناير كانت التبعية بدلاً من الاحتلال) والحريات السياسية، وكلها انهزمت لأسباب مختلفة، كلها تعتمد على عدم تراكم الخبرات والغرق في التفاصيل، فانهزمت ثورة يوليو بسبب اعتمادها على شخص عبد الناصر وما مثله من كاريزما جمعت حوله الشعب، فاقتنع بأفكاره ولم تترسخ لإنعدام الممارسة الديمقراطية، وانهزم الوفد بعد ثورة 19 لأن الملك ضمن لنفسه سلطات لا تعتمد على الديمقراطية، فلم يحكم سوى خمس أعوام فقط، ولم يحقق حراك الثلاثينات كل أفكاره الدافعة لأسباب كثيرة. وانهزمت الحركة العرابية بسبب التدخلات الأجنبية. نفس التدخلات التي ناصرها الإخوان في حراك الثلاثينات و52 و2011. ما يهمني هنا هو أن الثورات تدور حول نفس النقطة مع اختلاف التفاصيل منذ ثورة القاهرة الأولى في بداية القرن ال19. بلد يثور كل ما يقرب من ثلاثين عام ولا يحقق مطالبه إلا لفترات وجيزة ثم يرتد إلى ما قبل ثورته من تبعية واستبداد

أحد أهم أسباب ردة الثورة المصرية هو عدم وعيها بحجم الدور الخارجي الحرج في كل اللعبة. فذهب كل جندي ينصب نفسه جنرالاً، يحلل بدلا من أن يفعل، وانتشر المديوكر على القنوات ليتكلموا عن أشياء لا يعوها، ويقيموا أشخاصاً عظاماً كالبرادعي مثلاً، الذي تواضع في استخدامه لحقوقه القانونية لقمع كل شاتم لإيمانه بحرية التعبير، وأمام كل نقض لإيمانه بالفردية. بينما دمر هذا الثورة عبر تشتيتها، بمعنى أوضح: استُغِلت نقطة قوة الثورة، وهي الفردية وقيادة الفكرة، في تشتيتها الذي أوصلها إلى الإهتراء.

وهذا ينقلني إلى إيماني بأن الحل الآن سيكون في ترجمة مطالب الشارع الذي سيخرج في صورة سياسات وقرارات. والأقدر على هذا الآن هي جبهة الإنقاذ، فهي الفصيل الوحيد المنتمي للثورة -وإن لم يكن أداؤه بالثورية الكافية في الفترة الماضية- الذي يمتلك خبرات مهمة في مختلف المجالات، قادرة على إنقاذ دولة تتدحرج بسرعة مخيفة على السفح، وهي الوحيدة القادرة على تحقيق مصالحة وطنية مبنية على قواعد العدالة الإنتقالية -التي تحدث عنها البرادعي منذ وقتٍ مبكر جداً، بعد رحيل مبارك بيومٍ واحد.

الوضع السياسي في مصر لا يسمح لنا بالدخول في صراع أطول من هذا مع مؤسسات الدولة المصرية، بيروقراطية يوليو وإن شئت بيروقراطية الأسرة العلوية. الدولة أنتجت قطاعات واسعة من المحافظين الذين عارضوا الثورة منذ البداية، وهم ليسوا كالإخوان طائفة منعزلة عن المجتمع فكرياً واقتصادياً وحتى أسرياً (الإخوان يتزوجون من بعضهم منذ ما يقرب من قرن، وهو ما يفسر التأخر الذهني الذي يجعل شخص يتبع مدرس خط مات منذ خمسين عام). وهي الطبقة التي أنجحت الإسلام السياسي في إنتخابات البرلمان وقتما كان متحالفا مع المجلس العسكري. وقتها دعوت الناس في تدوينة إلى إنتخاب الإسلام السياسي لأنه سيسقط نفسه بنفسه *. هذا القطاع من الشعب المتوزع على الطبقات المختلفة من القوة بحيث سيعطل أي نظام تصادمي.

الديمقراطية هي طريقة لوضع الصراع (الذي يطوّر المجتمعات كما يطوّر الأشخاص، والذي لا ينتهي) في حدود آمنة، في حدود الكلمة. وأهم شرط من شروط الديمقراطية التي وضعها المفكر الكبير مراد وهبة في كتابه "رباعية الديمقراطية" هو شرط العلمانية، لهذا فشل الإسلام السياسي، لأنه مؤمن بالعنف وغير مقتنع بالعلمانية كأرضية مشتركة لتأسيس أي دولة. الأحزاب الدينية تنجح أحياناً في الوصول إلى السلطة في دول علمانية، لكن إن فكرت في زعزعة العلمانية تجد نفسها في مواجهة باقي الأطراف المختلفة. وهذا هو مكمن غباء الإخوان العام الفائت، فإن كانوا رضخوا لمظاهرات نوفمبر وأوفوا بوعودهم فيما يخص الدستور، ربما كانوا ظلّوا في السلطة عبر إشراك عدد أكبر من القوى التي تمثل مصالح اجتماعية حقيقية، لا هلاوس كالتي يمثلونها.

لهذا أرى أن أهم إنجاز ستحققه ثورة الثلاثون من يونيو ليس في إزاحة الإخوان من الحكم، فهم إنزاحوا بالفعل، بقى فقط ما يحتاجه رجال الإيماغولوجيا (الدعاية والإعلام)، بقى فقط مراسم الإزاحة الشكلية. ما ستحققه هو إنهاء وجود الإسلام السياسي سياسياً، طردهم من المناخ العام الذي فشلت كل الأنظمة في تحقيقه على الرغم من أثر وجودهم التدميري، وربما جسدياً، هذا يعتمد على مدى ركونهم إلى العنف في مواجهة التيار الجارف، والذي أراه سيحدث منذ أسابيع، والذي يتحقق الآن.

حتى نحقق هذا الطرد يجب تأسيس تحالف للطبقة الوسطى، الطبقة الحاكمة لقيم المجتمعات. جبهة الإنقاذ قادرة على هذا كما قلت عبر تحقيق تسوية ما مع البيروقراطية المصرية على قاعدة العدالة الإنتقالية. حظر الأحزاب الدينية يأتي ثانياً، وفي هذا نحتاج الجيش، لأنهم ليسوا أحزاباً بالمعنى الحداثي، بل طوائف بمعنى القرون الوسطى، طوائف مؤمنة بالعنف، الإخوان والفصائل المنبثقة عنها تشبه الحشاشين أكثر حتى من شبههم باليهود بعد قرون من الشتات. يأتي بعد هذا تجفيف المنابع عبر هندسة المجتمع، بتحقيق العدالة الإجتماعية ونشر التعليم الحقيقي، وتحويل المجتمع إلى مجتمع صناعي -خصوصاً الصعيد- وبالتالي تغيير الديموغرافيا المصرية وقيم المجتمع

الفرصة الآن سانحة ليقين الدولة بإستحالة بقاءها على شكلها السابق، يظهر هذا في مؤتمر ضباط الشرطة، وفي إستخدام المخابرات الإعلام  الجديد كمنبر لإيصال الرسائل إلى الشعب، وطرحها كآراء وليس احتكار ل"الوطنية المصرية". الدولة ستكون حاضرة في مشهد ما بعد مرسي، وهي الرسالة الوحيدة الظاهرة من كلمة السيسي ومؤتمر "الراجل اللي ورا عمر سليمان". وبسبب فاشية الشعب المفاجئة ضد الفاشيين. وهو ما ظهر فيما قاله الناس بعد حرق سيارة الحسيني ومهاجمة بيته، حين اتهموه بنقل قنابل في سيارته، الشعب لفظ الإسلاميين بالفعل، والحلاقين ماشية معاهم حلاوة.

إذا  ما كفت التيارات الثورية الراديكالية عن الهجوم على الجبهة، واستطاع اعضاءها تحمل مسؤولية إنقاذ البلد وتحقيق العدالة الإنتقالية، فإن مصر ستخرج للأبد من الحلقة المفرغة عبر ديمقراطية حقيقية إلى العالم الحديث


يشار كثيراً في الفترة الأخيرة إلى سياسة مرسي بأنها صهيونية، بسبب دعوته للحوار بعد كل قرار كبير لكسب شرعية دون تقديم أي شيء في المقابل، وهو ما حدث بالضبط مع "فتح"، ولكن كالعادة بدون التعلم من أي درس.

بعد خروج مصر من المعادلة العربية (بسبب كامب ديفد ومن بعدها معاهدة السلام -مارس 79) حدثت تطورات ضخمة في المنطقة، منها غزو لبنان (82)، وخروج منظمة التحرير إلى تونس، وهو ما حفظ أرواح أعضائها وقادتها ولكن جردهم أيضاً من وظيفتهم الأساسية: المقاومة.

مع إنحسار دور المنظمة لخروجها من دول الطوق إلى المنفى، غضت اسرائيل الطرف عن "حماس" الحركة الناشئة (87)، وبدأ نجمها يعلو بسبب عملياتها المتكررة(ويقول الكثير ممن أعرفهم بأن المقابل كان تنسيق معلوماتي)، بينما منظمة التحرير في المنفى، اضطر هذا منظمة التحرير-عبر فتح- إلى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل (مدريد ثم أوسلو)، بقية التفاصيل لا تهمني هنا، المهم أن عرفات أُغتيل وفازت حركة حماس في إنتخابات المجلس التشريعيى وأتبعت الفوز بإنقلاب مسلح!

هذا هو ما أراد أن يفعله مرسي بالضبط مع جبهة الإنقاذ، عدم الالتفات لأي ضغط ومن ثم مفاوضات للا شيء، لا مكسب يحفظ لقيادات الجبهة ماء وجووهم أمام قواعدهم، وبعدها يتم اغتيالهم سياسياً، وربما تصفية جسدية في وقت لاحق!

الانسداد المتعمد للمسار السياسي السلمي أفرز مظاهر عنف، من حرق مقرات وظهور ممارسات أناركية (ولا أقول مجموعات)، وهو رد فعل طبيعي، فيضان ناتج عن عدم تصريف محسوب للمياه الزائدة في نهر السياسة، والعنف هذا يتجلى الآن حتى في الاعلانات التلفزيونية (اقرأ وتأمل العنف في الإعلانات في الفترة الأخيرة، والإيحائات الجنسية التي بدأت بعد فوز الاسلاميين في انتخابات البرلمان، والاعلانات التي تشير إلى عدم وجود دولة في مقابل تعاظم دور الفرد والمجتمع)

المشكلة الأساسية أن العنف طريق إذا ما دخلنا فيه فلا يمكن الرجوع منه، وسنخسر أنفسنا وسط الصراع (أحمد زكي- أرض الخوف). كلما استمعت إلى قانونيين يتكلمون عن قضية مذبحة بورسعيد، وتأملت الغضب بين أولتراس أهلاوي، والغضب البورسعيدي، واستحالة ايجاد ادلة لأن الداخلية -جهاز جمع الأدلة- هي جزء من الجريمة، أوقن باستحالة أي حل بعيد عن العدالة الانتقالية، وهو ما رفضه الاخوان، وكان البرادعي سباقاً في الحديث عنها كالعادة (12 فبراير 2011)، المشهد معقد وسيزداد تعقيداً مع نزيف الدم 


العودة إذا مستحيلة، والحلول الوسط أيضاً يصعب إيجادها كلما سقط المزيد من الشهداء والجرحى، الكلام عن الهوية، وإدخال آلاف الارهابيين إلى البلاد من أفغانستان والبوسنة والصومال منذ وقت مبكر جداً، وخلق الإخوان لقوى على يمينهم ليقدموا أنفسهم كوسط(الإخوان كانوا أقصى اليمين في الجمعية الوطنية بينما كان أقصى اليسار هو الحزب الشيوعي، اليوم هناك من هم على يمين يمين الإخوان) أفرز جرأة على  الظهور لدى أعداءهم الطبيعيين

أهم ما أنتج الثورة وأنتجته، هي "الفردية"، لا حدود لأي شيء، اليوم تستطيع أن تنتقد أي رجل دين، وربما تسبه، اليوم يُناقش الإلحاد داخل مسجد، اليوم الكرامة أهم من الرشاوى لبورسعيد وكل بقعة تنتفض، اليوم لا تابوهات، تتساوى الرءوس في الواقع الافتراضي، المنع يقوّي الحجة، الردود المحفوظة على مسائل شائكة كالإلحاد بسبب عدم مناقشتها وضحالة البلطجية الملتحين على الفضائيات، تلك الردود لا تكفي، العنف هو الآخر يقوي الحجة، هذا طبعاً بالإضافة إلى التأثير النفسي بسبب عنف الإخوان والجماعات الدينية، وهو المحفز الأكبر على البحث عن(وربما اعتناق بدون بحث كافي في الكثير من الأحيان) أفكار مضادة.

جيل لا ينتمي إلى العفن ومُصِّر على مقاومته حتى لو كلفه ذلك حياته، أتأمل المراهقين المشاركين في الاشتباكات أحياناً ب"لبس المدرسة"، مدرك أنه متأخر، بينما الأجيال الحاكمة حتى لا تدرك جهلها، مدرك ومُصرّ على الانعتاق من البكابورت الذي نعيش فيه، المشكلة أن الإسلاميين يعتقدون أن قيودهم فقط هي التي تحطمت، الأثر الاجتماعي للثورة أعمق بكثير من أن يدركوه، ربما هذا التغيير الذي أنتج الثورة ليس جاهزا للحكم بعلاقات اجتماعية وانتاجية كافية، ولكنه اليوم يعلن عن نفسه بدون خوف، يتصالح مع أفكاره لأنه وجد التربة المناسبة لأن يعلنها، تتعمق قيمه يومياً في أكثر التفاصيل تناهياً، اليوم يحتج ضباط حراسة مرسي على سوء معاملة نجله، بينما يُحكَى عن اصطفاف ضباط كبار ومسئولين أمام أحفاد مبارك ليُصفَعوا! الضغط على غير المحجبات صار يُواجه الآن بينما كان أي مساس بممارس الضغط قبل الثورة سيصوَّر كأنه حرب على الدين من السلطة.


مشكلة الإخوان الأكبر في نظري هو استنادهم إلى شرعية أقدم من شرعية يوليو التي ثرنا عليها، شرعية الإلاهي، والديني بطبيعته غير عقلاني، تحويل الدين إلى مشروع سياسي (بيقلب مسخرة) في أحيان كثيرة، كرد مرسي على الانتقادات الاقتصادية لقرار غلق المحال في العاشرة مساءً بالحديث عن الصلاة و "باب الرزق"

أزمة الإخوان أنهم طمعوا في سلطة ستقتلهم بالتأكيد، وهو شيء كتبت عنه قبل الانتخابات بدون أن أتخيل عمق ما سيحدث، فإذا نجح الإخوان اقتصادياً ستتسع الطبقة الوسطى، وهي طبقة ليبرالية بطبيعتها، وستحقق تغييراً بطيئاً ولكن عميقاً بمشروع واع، وإذا فشلوا سيثور الشعب من جديد ولكن بدافع غريزة البقاء

الإصلاح اليوم مستحيل، إسقاط نظام الإخوان بسرعة لا يمكن أن يعقبه نظام مائع كالذي نعيشه، كلما أسرعنا في هذا تجنبنا أفكار أكثر تطرفاً وعنفاً تأكل نفسها كما فعل الإخوان

البداية


تناول القضية تم بشكل غير سليم من البداية، بسبب بشاعة الجريمة ومصالح متضاربة لأطراف عدة. فالقضية قضية للثورة من حيث أنها أظهرت مشكلة كبرى في بنية النظام الذي قامت ضده الثورة، فالدولة متحللة إن أخذنا بنظرية أن المذبحة هي عنف كروي عادي تضخم بسبب الفوضى التي تعيشها كل الدوائر الشرطية في مصر، مع إنحدار قيمي أصاب المصريين بسبب التجريف والفشل والبطالة إلخ، دفعت كلها إلى تفريغ الغضب في شكل هوس بالكرة، هذا إن تعمدنا إحسان النية.

أما إذا نظرنا للمجزة في سياق أن البلد تحكم بمنظومة قديمة تعتمد على المؤامرات لتشتيت الإنتباه عن قضايا أهم بدلاً من المواجهة، فالمذبحة مدبرة والمحرض الأساسي فيها هو القيادة السياسية وقتها -المجلس العسكري- أو على الأقل دوائر أكثر غموضاً في النظام.

ولكنها ليست قضية تتعلق بمن ماتوا في سبيل إنجاح الثورة-وحتى هؤلاء لا يجب التعامل مع قضيتهم باعتبارها قضية الثورة الأولى، بل تنفيذ الشعارات التي مات من أجلها هؤلاء يجب أن يتم أولاً- فهم في النهاية قُتلوا غدراً في استاد كرة بينما البلد كان يغرق في أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية لا حصر لها، وهذا بالطبع لا يدعو للتغاضي عن القضية-كما فهم من كلامي صديق من الأولتراس اليوم- ولكن فقط لوضع الأمور في نصابها

القضية تتعلق إذاً بالثورة من حيث أنها نتيجة للفشل أو للتآمر الذي دفع المواطنين للثورة، ولكن ليس لأن من سقطوا شهداء ماتوا في سبيلها، وهذا يجب أن يكون واضحاً حتى نستطيع أن نحل معضلة تكاد تدفع الإقليم الأهم في مصر إلى الإستقلال.

العنف الكروي

العنف الكروي منتشر في مصر منذ أمد بعيد، بسبب سن المشجعين وطبيعة المجتمع وعدم تمثيل شرائحه بشكل سليم وأسباب أخرى يجب أن يفحصها علماء الاجتماع، والتعصب للكرة وصل ببعض المشجعين لسب بورسعيد-قبل المذبحة- في أكثر من لقاء (مش بنحبوكو ياللي اليهود ن##وكوا، بلد البالة مافيهاش رجالة) رداً على سباب موجه لنادي، وهو هتاف يكشف عن كم الجهل بتاريخ المدينة والحيز الضخم الذي يشغله من تاريخ النضال الوطني، وعن أولويات الإنتماء لدى جيل وجد حواجز أمام الإنتماء إلى أي مجموعة غير المجموعات الكروية، فالإشتباك مع الأمن المركزي بعد المباريات لم يكن يرقى إلى ما يتعرض له المنضمون إلى مجموعات سياسية مثلاً، وهو ما تستطيع أن تراه من خلال مقارنة كم المشجعين بكم المشاركين في مظاهرات كفاية و9 مارس وغيرها قبل الثورة، بالإضافة إلى عدم التحقق في أي شيء (الأمن كان يمنع الكثير من الأبحاث والمشاريع العلمية، في جامعتي منع طالب من تطوير طائرات كان بارعاً في صنعها خوفاً من إستخدامها في تهديد أمن النظام، وهو نموذج موحي جداً بما يستطيع أن يفعله نظام دكتاتوري). يكون الأمر واضحاً أيضاً في تشجيع البعض لنواديهم على طائرات المشجعين في مباريات المنتخب الخارجية، إسم النادي قبل المنتخب.

بالرغم من عضويتي في النادي الأهلي إلا إنني لم أستطع أن أفهم أبداً العصبية في النقاش حول عظمة هذا النادي أو ذاك، بينما ينتقل اللاعبون  والمدربون بين الأندية، وبينما يرد معظم الناس على من كان يتكلم عن الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ب"ربنا يولّي الأصلح".

هذا ما يفسر كلام أحد "كابوهات" أولتراس المصري بعد المذبحة بسعادته بعدد القتلى والمصابين، وسعادة الكثير من أولتراس الأهلي بأحكام الإعدام بالرغم من يقينهم من أنها جائت بسبب ضغطهم على المحكمة، وبالرغم من أن أحد المحكوم عليهم أهلاوي لم يقدم للمحاكمة من الأساس، وبالرغم من أن-وهي النقطة الأهم- وزارة الداخلية، وهي الجهاز المنوط به جمع الأدلة، متهمة  ككل في القضية من قبل الرأي العام، وسينطق بالحكم على بعض ضباطها السبت القادم في نفس القضية.

صدمني اليوم رد عضو في الأولتراس حين سألته عن رد فعله إن برأت المحكمة الضباط "هم عارفين احنا ممكن نعمل إيه"، السؤال الثاني كان: ولماذا لا تثأر لأصدقائك مادمت متأكد من تورط جميع المتهمين؟ وكيف تنتظر حكم محكمة تخضع للضغوط، وضغط بورسعيد الآن أقوى، فرد ب"ماحدش بيضغط زينا"

الأولتراس وموقفه

الإعتزاز بخوف القضاء مخيف، الأولتراس اعتاد على تمجيد المستفيدين من ضغطه على المجلس العسكري له، رأيت الدهشة في عيني زميلي هذا، فاجئته الأسئلة التي لم يعتاد على مواجهتها، اعتاد-الأولتراس-على الخيلاء أمام أعين المفتونين بأساطير الإعلام، الذي صوره كأسد الميدان مع "شباب الأخوان البريء" في موقعة الجمل، بينما يعرف كل من تواجد يومها أن الكر والفر لم يترك لأحد رفاهية معرفة هوية مجاوره، بينما انخرط في معارك مع أقرانه البورسعيدية في حملات سباب للفِرَق بينما يغلي البلد بفعل قرارات المرسي، الأولتراس اندفع في تصديق أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، يتعامل مع الوضع العام تماماً كثوار الأمس القريب، تبسيط حاد لكل شيء، تماماً كحكايات الحالمين عن الثورات وكأنها حكايات ما قبل النوم، وينتظر دائماً الإطراء والإنبهار وكل النظرات المعجبة بحماسهم، والذي لا أنكره، وبإخلاصهم لدماء زملائهم، الإخلاص الذي ينقص الكثيرين، ولكن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، وحسن النوايا غير كافي خصوصاً في بلد يكاد ينفجر.

ال72 الذين قتلوا غدراً في الاستاد أدير صراع غير واعي بإسمهم قاد إلى مقتل العشرات الآخرين وحصار مدينة وقد يقود فيما بعد إلى تعطيل الملاحة في الممر المائي الأهم في العالم(وهو أمر لو تعلمون عظيم)، إنعدام الوعي وصل بأحد "كابوهات" الأولتراس إلى رفع حزامه في مسيرة وزارة الدفاع لمنع الصغار من الأعضاء من الإعتداء على نشطاء اختلفوا معهم حول الهتاف، وهنا لدي ملاحظتين: الأولتراس يتعارض هنا مع الفردية، وهو مقتل كل المجموعات التي تنادي بقيم العدالة، من التنظيمات الشيوعية إلى الإسلامية، والثاني أن الهتاف كان ضد مجلس عسكري ليس في السلطة، وليس ضد من كرمهم بأعلى الأوسمة في مصر.

ينحاز الأولتراس لضحاياه لمجرد أنهم ضحاياه، فهو نفس الأولتراس الذي شجع ناديه يوم حادثة القطار، وهم نفس المجموعات التي شجعت أنديتها كما فعلت مع المنتخب والدم ينزف في الميادين أو في الكوارث الكبرى كالعبارة السلام وغيرها، هو إذا غير منحاز-أو على الأقل لا يسعى في سبيل تحقيق-لقضية العدالة بمعناها الواسع، ولكنه الإحساس بالإنتماء للعشيرة، هي إذا مجموعة مظهرها الحداثة وباطنها أفكار معادية للفردية، القيمة الأهم في أي مجتمع ديمقراطي حديث، ومجموعة بهذه العقلية لا يجب تأييد كل ما تفعله فقط لأن "شكلهم يفرح"، عدالة القضية لا يعني عدالة الحل المقدم من صاحبها.


القضية

علّق صديق بورسعيدي مقيم في القاهرة على فخر الزميل المنتمي للألتراس بالضغط على القضاء بأنه يرغب فقط في رؤية 72 بورسعيدي مشنوق، وهو ما قفز إلى ذهني مجدداً حين سألني زميل آخر من الاولتراس "عمرك شوفتنا قلنا حاجة ورجعنا فيها؟" بعد أن سألته إن كان يعرف أن القضية ستعاد وربما يبرأ المدانون في النقض

علقت أم الشهيد كريم خزام على الحكم لأحد الأصدقاء بأنها لن تكون سعيدة إن أعدم بريء واحد، ولكن اللهجة المستخدمة من بعض المتعصبين تجعلني أشك في أن يتألم لإعدام بريء إذا كان بورسعيدياً، وأنا هنا لا أبريء أو أدين أحد، أنا فقط أقول: المحاكمة شابها الكثير، ولا يمكننا الإطمئنان إلى حكمها

المذبحة كانت بشعة، تم القبض على الكثير من المسجلين خطر من الشوارع -علاء عبد الفتاح وجمال عيد مسجلين خطر، الأدلة ضعيفة بسبب شيوع القتل وإظلام الاستاد وقتها، وإنحياز الشهود لأي من الطرفين بفعل الهوس الكروي وبشاعة الجريمة وقسوة العقوبة المترتبة عليها، مع إستحالة رفع بصمات كل المتواجدين ليلتها في الإستاد مثلاً للتثبت من الفاعلين الأصليين، بورسعيد شهدت حالة من الهرج لم تشاهدها منذ إنتهاء الحروب مع إسرائيل، وجهاز جمع الأدلة متهم في القضية، والنيابة تحقق في عشرات الآلاف من القضايا والتي تزيد كل ثانية، مما يقلل من فاعليتها، ومحكمة حكمت في القضية بينما هي بين نارين: إما إحتراق القاهرة: المركز، أو القناة: الأهم للعالم من بقية القطر.

لا أعلم إن كان أحداً لا يشك في تجرد الحكم، ولكني مقتنع بأنه سيدرس في كليات الحقوق لعقود قادمة كمثال لأحكام المنصات المرتعشة، تماماً كما تحكى قصة كقصة إرتداء المحامون للأرواب السوداء



ما العمل: العدالة الانتقالية


إذا أخذنا في الحسبان أن المتهم الأول في كل الجرائم المرتكبة منذ بداية الثورة-ومن قبلها- هو جهاز جمع الأدلة -الشرطة، وإذا أخذنا في الاعتبار كثرة الضحايا وكثرة المتهمين وإستحالة سلامة الأدلة بسبب عدم حياد جامعيها، وإذا أخذنا-وهو العنصر الأهم- عدم إطمئنان أحد إلى القانون الذي يعصف به من قبل أكبر رأس-أو قل كرش- في الدولة، وبالتالي إذا تحسبنا للدائرة المخيفة التي دخلنا فيها من التأثير على المحاكم والشهداء الذين يسقطون كل يوم دفاعاً عن شهداء سبقوهم، في اشتباكات سببها الأساسي اللاعدالة واللاوضوح المرتبط بقوانين لا تناسب الظرف الإستثنائي، فإن الحل الأنجع هو صيغة ما للعدالة الانتقالية، وهي الفكرة التي رفضها المجلس العسكري تبعاً للإخوان الذين رفضوا بالفعل مشاريع قوانين مقدمة من أكثر من حزب ومؤسسة حقوقية، وفي ضوء الاضرابات الواسعة داخل جهاز الشرطة ومطالب تلك الاضرابات، بالإضافة إلى الضغوط التي تمارس يومياً على حتى أصغر التجاوزات مثل استغلال عربات الشرطة في نقل عائلات ضباطها، فإني أعتقد أن إعادة الهيكلة تلك، والتي هي واحدة من أهم إجراءات العدالة الإنتقالية ستقابل بترحيب من معظم شرائح هذا القطاع. وإذا لم ننجز هذا النوع من العدالة سيستمر سقوط الشهداء في كل مكان، وستأكل حمى الثأر البلد، ورعبٌ أكبر من هذا سوف يجيء


أشعر شعوراً قوياً بأننا بصدد موجة جديدة من الثورة، وهذا ليس بسبب الأعداد الضخمة التي قضت الأمس تهتف في ميادين التحرير والمسيرات الماراثونية إليها، ليس في الصوت، بل في الصورة.

لم أهتف مرة واحدة غير تابع منذ بدأت المشاركة في الاحتجاجات (منتصف2006) إلا يوم 25 يناير 2011 بين عدد صغير وجد نفسه وحيداً قبل الميعاد المحدد للمظاهرة/الثورة، ما شجعني يومها برغم الخجل كان الخوف في أعين المتفرجين، لأن الصورة احتاجت لهذا، شعرت بهذا حين لاحظت أن صورتنا لا تقنع العيون، حيث كان الهتاف الأعلى بين المتظاهرين يسب مبارك ويؤيد ايران، بلد القهر الديني الأول في العالم.

قضيت ليلة أمس الأوّل تقريباً أفرغ غضبي عبر تدخين كمية ضخمة من السجائر-عدت اليها بفضل السيد الرئيس- وتأليف الشعارات، ومتابعة مؤتمر ياسر علي، الذي بدا مذعوراً برغم أنه كان يقرأ ما يجعله المتحدث باسم الله لا رئاسة الجمهورية، ثم مؤتمر القوى الوطنية، الذي كشفت صورته شخصية كل من كان فيها، من البرادعي، الأب الروحي للثورة الذي ترك مقدمة الصورة لمن هم أصغر منه، ووقف غير مهتم بما يقال أو يفعل، المهم هو الوحدة، حمدين الذي وقف مبتسماً وتوجه بكلامه للبسطاء، وهو ما جعلني أفكر بأنه مدرك تماماً لدوره: مجرد صورة لتسويق المنتج، عمرو موسى "الصوت الجهوري الذي لا يقول شيئًا"، وسامح عاشور، الشكل الكلاسيكي لناصري ما بعد السادات: وجه صعيدي، صوت مرتفع، وأشخاص أكبر من أحزابهم، وفي الخلفية صورة سعد زغلول، قائد الثورة الجدة، التي تشبهنا أكثر مما تشبهنا ثورة 52


تراجعت عن الهتاف بالشعارات في المسيرة التي انضممت اليها، وحين كنت أشجع نفسي على الهتاف، خصوصاً حين يخفت هتاف من قادوا المسيرة من العباسية إلى التحرير على كوبري 6 اكتوبر،  كنت أتراجع لأتابع صورة ما، إما العساكر المرعوبين على أسطح قسمي الشرابية والأزبكية، أو صورة الشباب الذي يهتف خلف امرأة، وهو مشهد لم يكن يحدث كثيراً في أيام الثورة الأولى بسبب تواجد المتأسلمين في الميدان، أو إشارات التأييد لنا من العابرين على الكوبري برغم تعطيلنا لهم، نفس الإشارات أتت من العشوائيات أسفل الكوبري.

قبل أن أنزل إلى التحرير استطلعت ما يحدث عبر التلفزيون، لاحظت عدة اختلافات بين مشهد الاتحادية ومشهد التحرير:

أولاً: الاسلاميون محتشدون أمام قصر السلطة، بينما احتشد اصحاب الثورة في ميدانهم الذي تركوه لعامين، هي رمزية المكان كما أُنزِلت

ثانياً: طريقة الاحتشاد نفسها، فالتحرير كان به عدة عشرات  ازدادوا بتؤدة(وصلوا بعد ذلك لعشرات الالاف)، بينما امتلأ مشهد الاتحادية بالجلاليب البيضاء التي وصلت في نفس اللحظة، هنا ينفضح الفارق بين الجماعات التي تعتمد على الكل، المجموع، الأمة، وبين مواطنين ينتمون إلى القرن الجديد يؤمنون بالفردية، لا يساقوا من نقطة تجمع لأخرى

ثالثاً: خطيب الجمعة أمام الاتحادية اخوانياً، وورائه على المنصة أربعة أو خمسة أشخاص من قيادات الجماعات المتضامنة معهم، بينما يجلس الباقون على الأرض أسفل أقدامهم، مؤخراتهم مفرطة في الكبر كمؤخرات ضباط الشرطة، وهو ما يدعونا للتفكير في علاقة وسياق الجشع في السُلطة والطعام، أما التحرير فلم تقم فيه الجمعة، نعم كل المسيرات تحركت من مساجد بعد الصلاة، أما ميدان الثورة، ففصل فيه الدين عن السياسة

رابعاً: في التحرير لا منصات، أما الاتحادية فوقف رئيس الجماعة باسلوب دكتور الهندسة (هو كلامي هو اللي صح واللي مش عاجبه هاسقطه) بتعبير صديقي هاني جورج، يلوّح بسبابته مهدداً ومتوعداً، بينما تظهر بحجم قدمه من زاوية التصوير، وهو ما تنبأ به يوسف شاهين


أما في التحرير فظهر قديس الثورة كمال خليل منتشياً، محمولاً على الأعناق يقود الهتاف مرة ويتبع مواطناً مغموراً مرة أخرى، ينام بين دقيقة وأخرى على الأعناق ليهتف باتجاه السماء ويتراقص حين يجلس فوق الأعناق، هذه الحالة من الارتياح للمحيط والإحساس بالأمان شعرها جميع من قابلتهم أو شاهدتهم يهتفون، وهي مرتبطة بتركيبة الميدان، فالميدان لم يكن فيه من يضرب الصحفيين أو يجبر الناس على الهتاف بما يريد. نفس الحالة لاحظتها على مصطفى الجندي الذي دخل الميدان محمولاً على الأعناق، وفتح جاكيته وأخذ يتلاعب ببطنه متهكماً على مرسي في أول مرة دخل فيها إلى التحرير، وكان رئيساً وقتها

الاحتفاء بالصورة ظهر أيضاً وقت دخول البرادعي وحمدين محمولين على الأعناق، لم يهتف أيهما، حين تشابكت أيديهما هتفنا (ايد واحدة). الأكثر فهماً للصورة كان خالد علي، الذي حمل على الأعناق  ليتبع حمدين والبرادعي، بدا أسرع في الزحف من الآخرين ليتبعهما.

بعد ذلك بلحظات عادت الصورة لأيام يناير، وقتما كانت النكات الطريق الأقدر على التعبير، دخل الميدان حمار يجره عدد من الناس وهم يهتفون: الشعب يريد إسقاط الحمار

الصورة اختلفت أيضاً بين التحرير اليوم وتحرير الشريعة، الجميع كان يصافح باحترام شديد كل الوجوه المعروفة، من حسين عبد الغني لعبد الغفار شكر لحازم الببلاوي لخالد علي لخالد الصاوي لأحمد حلمي، ولا أحد يقبّل الأيدي

الأحداث متوقعة، وليس حجم الغضب هو ما يجعلني أرى الموجة الجديدة تقترب، بل اللجوء إلى الصورة بدلاً من الصراخ