أحد أهم أسباب ردة الثورة المصرية هو عدم وعيها بحجم الدور الخارجي الحرج في كل اللعبة. فذهب كل جندي ينصب نفسه جنرالاً، يحلل بدلا من أن يفعل، وانتشر المديوكر على القنوات ليتكلموا عن أشياء لا يعوها، ويقيموا أشخاصاً عظاماً كالبرادعي مثلاً، الذي تواضع في استخدامه لحقوقه القانونية لقمع كل شاتم لإيمانه بحرية التعبير، وأمام كل نقض لإيمانه بالفردية. بينما دمر هذا الثورة عبر تشتيتها، بمعنى أوضح: استُغِلت نقطة قوة الثورة، وهي الفردية وقيادة الفكرة، في تشتيتها الذي أوصلها إلى الإهتراء.
وهذا ينقلني إلى إيماني بأن الحل الآن سيكون في ترجمة مطالب الشارع الذي سيخرج في صورة سياسات وقرارات. والأقدر على هذا الآن هي جبهة الإنقاذ، فهي الفصيل الوحيد المنتمي للثورة -وإن لم يكن أداؤه بالثورية الكافية في الفترة الماضية- الذي يمتلك خبرات مهمة في مختلف المجالات، قادرة على إنقاذ دولة تتدحرج بسرعة مخيفة على السفح، وهي الوحيدة القادرة على تحقيق مصالحة وطنية مبنية على قواعد العدالة الإنتقالية -التي تحدث عنها البرادعي منذ وقتٍ مبكر جداً، بعد رحيل مبارك بيومٍ واحد.
الوضع السياسي في مصر لا يسمح لنا بالدخول في صراع أطول من هذا مع مؤسسات الدولة المصرية، بيروقراطية يوليو وإن شئت بيروقراطية الأسرة العلوية. الدولة أنتجت قطاعات واسعة من المحافظين الذين عارضوا الثورة منذ البداية، وهم ليسوا كالإخوان طائفة منعزلة عن المجتمع فكرياً واقتصادياً وحتى أسرياً (الإخوان يتزوجون من بعضهم منذ ما يقرب من قرن، وهو ما يفسر التأخر الذهني الذي يجعل شخص يتبع مدرس خط مات منذ خمسين عام). وهي الطبقة التي أنجحت الإسلام السياسي في إنتخابات البرلمان وقتما كان متحالفا مع المجلس العسكري. وقتها دعوت الناس في تدوينة إلى إنتخاب الإسلام السياسي لأنه سيسقط نفسه بنفسه *. هذا القطاع من الشعب المتوزع على الطبقات المختلفة من القوة بحيث سيعطل أي نظام تصادمي.
الديمقراطية هي طريقة لوضع الصراع (الذي يطوّر المجتمعات كما يطوّر الأشخاص، والذي لا ينتهي) في حدود آمنة، في حدود الكلمة. وأهم شرط من شروط الديمقراطية التي وضعها المفكر الكبير مراد وهبة في كتابه "رباعية الديمقراطية" هو شرط العلمانية، لهذا فشل الإسلام السياسي، لأنه مؤمن بالعنف وغير مقتنع بالعلمانية كأرضية مشتركة لتأسيس أي دولة. الأحزاب الدينية تنجح أحياناً في الوصول إلى السلطة في دول علمانية، لكن إن فكرت في زعزعة العلمانية تجد نفسها في مواجهة باقي الأطراف المختلفة. وهذا هو مكمن غباء الإخوان العام الفائت، فإن كانوا رضخوا لمظاهرات نوفمبر وأوفوا بوعودهم فيما يخص الدستور، ربما كانوا ظلّوا في السلطة عبر إشراك عدد أكبر من القوى التي تمثل مصالح اجتماعية حقيقية، لا هلاوس كالتي يمثلونها.
لهذا أرى أن أهم إنجاز ستحققه ثورة الثلاثون من يونيو ليس في إزاحة الإخوان من الحكم، فهم إنزاحوا بالفعل، بقى فقط ما يحتاجه رجال الإيماغولوجيا (الدعاية والإعلام)، بقى فقط مراسم الإزاحة الشكلية. ما ستحققه هو إنهاء وجود الإسلام السياسي سياسياً، طردهم من المناخ العام الذي فشلت كل الأنظمة في تحقيقه على الرغم من أثر وجودهم التدميري، وربما جسدياً، هذا يعتمد على مدى ركونهم إلى العنف في مواجهة التيار الجارف، والذي أراه سيحدث منذ أسابيع، والذي يتحقق الآن.
حتى نحقق هذا الطرد يجب تأسيس تحالف للطبقة الوسطى، الطبقة الحاكمة لقيم المجتمعات. جبهة الإنقاذ قادرة على هذا كما قلت عبر تحقيق تسوية ما مع البيروقراطية المصرية على قاعدة العدالة الإنتقالية. حظر الأحزاب الدينية يأتي ثانياً، وفي هذا نحتاج الجيش، لأنهم ليسوا أحزاباً بالمعنى الحداثي، بل طوائف بمعنى القرون الوسطى، طوائف مؤمنة بالعنف، الإخوان والفصائل المنبثقة عنها تشبه الحشاشين أكثر حتى من شبههم باليهود بعد قرون من الشتات. يأتي بعد هذا تجفيف المنابع عبر هندسة المجتمع، بتحقيق العدالة الإجتماعية ونشر التعليم الحقيقي، وتحويل المجتمع إلى مجتمع صناعي -خصوصاً الصعيد- وبالتالي تغيير الديموغرافيا المصرية وقيم المجتمع
الفرصة الآن سانحة ليقين الدولة بإستحالة بقاءها على شكلها السابق، يظهر هذا في مؤتمر ضباط الشرطة، وفي إستخدام المخابرات الإعلام الجديد كمنبر لإيصال الرسائل إلى الشعب، وطرحها كآراء وليس احتكار ل"الوطنية المصرية". الدولة ستكون حاضرة في مشهد ما بعد مرسي، وهي الرسالة الوحيدة الظاهرة من كلمة السيسي ومؤتمر "الراجل اللي ورا عمر سليمان". وبسبب فاشية الشعب المفاجئة ضد الفاشيين. وهو ما ظهر فيما قاله الناس بعد حرق سيارة الحسيني ومهاجمة بيته، حين اتهموه بنقل قنابل في سيارته، الشعب لفظ الإسلاميين بالفعل، والحلاقين ماشية معاهم حلاوة.
إذا ما كفت التيارات الثورية الراديكالية عن الهجوم على الجبهة، واستطاع اعضاءها تحمل مسؤولية إنقاذ البلد وتحقيق العدالة الإنتقالية، فإن مصر ستخرج للأبد من الحلقة المفرغة عبر ديمقراطية حقيقية إلى العالم الحديث